فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ}.
وعمل بما فيه {فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} لا يضل في الدنيا ولا يشقى.
قال ابن عباس: ضمن الله لمن يقرأ القرآن ويعمل بما فيه ألاّ يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: كسبًا حرامًا، قاله عكرمة.
الثاني: أن يكون عيشه منغَّصًا بأن ينفق من لا يوقن بالخلف، قاله ابن عباس.
الثالث: أنه عذاب القبر، قاله أبو سعيد الخدري وابن مسعود وقد رفعه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الرابع: أنه الطعام الضريع والزقوم في جهنم، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد. والضنك في كلامهم الضيق قال، عنترة:
إن المنية لو تمثل مثلت ** مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل

ويحتمل خامسًا: أن يكسب دون كفايته.
{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أعمى في حال، وبصير في حال.
الثاني: أعمى عن الحجة، قاله مجاهد.
الثالث: أعمى عن وجهات الخير لا يهتدي لشيء منها. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله: {اهبطا} مخاطبة لآدم وحواء، ثم أخبرهما بقوله: {جميعًا} أن إبليس والحية يهبطان معهما وأخبرهما بأن العداوة بينهم وبين أنسالهم إلى يوم القيامة. و{عدو} يوصف به الواحد والاثنان والجميع، وقوله تعالى: {فإما يأتيكم مني هدى} شرط وجوابه في قوله: {فمن اتبع} وما بعده إلى آخر القسم الثاني. والهدى معناه دعوة شرعي ثم أعلمهم أنه من اتبع هداه وآمن به فإنه {لا يضل} في الدنيا {ولا يشقى} في الآخرة، وأن {من أعرض} عن ذكر الله وكفر به {فإن له معيشة ضنكًا} والضنك النكد الشاق من العيش أو المنازل أو مواطن الحرب ونحو هذا، ومنه قول عنترة وإن نزلوا بضنك أنزل، وصف به الواحد والجمع ذلك من وعيد لهم ثم أخبر عن حالة أُخرى هي أيضًا في يوم القيامة وهي حشرهم عميًا، ثم يجيء قوله: {ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} [طه: 127] معنى هذا الذي ذكرناه من المعيشة والعمى ونحوه هو عذابه في الآخرة وهو {أشد وأبقى} [طه: 127] من كل ما يقع عليه الظن والتخيل، فكأنه ذكر نوعًا من عذاب الآخرة ثم أخبر أن عذاب الآخرة أشد وأبقى. وقرأت فرقة {ونحشره} بالنون، وقرأت فرقة {ويحشره} بالياء وقرأت فرقة {ويحشرْه} بسكون الراء، وقرأت فرقة {أعمى} بالإمالة، وقالت فرقة العمى هنا هو عمى البصيرة عن الحجة.
قال القاضي أبو محمد: ولو كان هذا لم يخش الكافر لأنه كان أعمى البصيرة ويحشر كذلك، وقالت فرقة العمى عمى البصر ع وهذا هو الأوجه مع أن عمى البصيرة حاصل في الوجهين، وأما قوله: {ونحشر المجرمين يومئذ زرقًا} [طه: 102] فمن رآه في العينين فلابد أن يتأول فيها مع هذه إما أنها في طائفتين أو في موطنين، وقوله تعالى: {كذلك أتتك} ذلك إشارة إلى العمى الذي حل به، أي مثل هذا في الدنيا أن {أتتك آياتنا فنسيتها} والنسيان في هذه الآية بمعنى الترك ولا مدخل للذهول في هذا الموضوع، و{تنسى} بمعنى تترك في العذاب وروي أن هذه الآيات نزلت في المرشي.
{وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ}.
المعنى وكما وصفنا من أليم الأفعال {نجزي} المسرفين الكفار بالله عز وجل، وقوله: {ولعذاب الآخرة} إن كانت معيشة الضنك في الدنيا أو البرزخ فجاء هذا وعيدًا في الآخرة بعد وعيد، وإن كانت المعيشة في الآخرة فأكد الوعيد بعينه هذا القول، الذي جعل به عذاب الآخرة فوق كل عذاب يتخيله الإنسان أو يقع في الدنيا. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

{قال اهْبِطا}.
في المشار إِليهما قولان:
أحدهما: آدم وإِبليس، قاله مقاتل.
والثاني: آدم وحواء، قاله أبو سليمان الدمشقي.
ومعنى قوله تعالى: {بعضكم لبعض عدوٌ} آدم وذريته، وإِبليس وذريته، والحية أيضًا؛ وقد شرحنا هذا في [البقرة: 36].
قوله تعالى: {فمن اتَّبَعَ هُدَاي} أي: رسولي وكتابي {فلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى} قال ابن عباس: من قرأ القرآن واتَّبَع ما فيه، هداه الله من الضلالة، ووقاه سوء الحساب، ولقد ضمن الله لمن اتَّبع القرآن أن لا يَضِلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية.
قوله تعالى: {ومن أعرض عن ذِكْري} قال عطاء: عن موعظتي.
وقال ابن السائب: عن القرآن ولم يؤمن به ولم يتَّبعه.
قوله تعالى: {فإنَّ له معيشةً ضَنْكًا} قال أبو عبيدة: معناه: معيشة ضيِّقة، والضَّنك يوصَف به الأنثى والذكر بغير هاءٍ، وكل عيش أو مكان أو منزل ضيِّق، فهو ضَنك، وأنشد:
وإِنْ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فانْزلِ

وقال الزجاج: الضَّنْك أصله في اللغة: الضِّيق والشدَّة.
وللمفسرين في المراد بهذه المعيشة خمسة أقوال:
أحدها: أنها عذاب القبر، روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أتدرون ما المعيشة الضنك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده إِنه ليسلَّط عليه تسعة وتسعون تِنِّينًا ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إِلى يوم القيامة» وممن ذهب إِلى أنه عذاب القبر ابن مسعود، وأبو سعيد الخدري، والسدي.
والثاني: أنه ضغطة القبر حتى تختلف أضلاعه فيه، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثالث: شِدَّة عيشه في النار، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، وابن زيد.
قال ابن السائب: وتلك المعيشة من الضريع والزقُّوم.
والرابع: أن المعيشة الضَّنْك: كسب الحرام، روى الضحاك عن ابن عباس قال: المعيشة الضَّنْك: أن تضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدى لشيء منها، وله معيشة حرام يركض فيها.
قال الضحاك: فهذه المعيشة هي الكسب الخبيث، وبه قال عكرمة.
والخامس: أن المعيشة الضَّنْك: المال الذي لا يتَّقي اللهَ صاحبُه فيه، رواه العوفي عن ابن عباس.
فخرج في مكان المعيشة ثلاثة أقوال:
أحدها: القبر.
والثاني: الدنيا.
والثالث: جهنم.
وفي قوله تعالى: {ونحشره يوم القيامة أعمى} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: {أعمى} {حشرتَني أعمى} بفتح الميمين.
وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بكسرهما.
وقرأ نافع بين الكسر والفتح.
ثم في هذا العمى للمفسرين قولان:
أحدهما: أعمى البصر، روى أبو صالح عن ابن عباس قال: إِذا أُخرج من القبر خرج بصيرًا، فإذا سيق إِلى المحشر عمي.
والثاني: أعمى عن الحُجَّة، قاله مجاهد، وأبو صالح.
قال الزجاج: معناه: فلا حُجَّة له يهتدي بها، لأنه ليس للناس على الله حُجَّة بعد الرسل.
قوله تعالى: {كذلك} أي: الأمر كذلك كما ترى {أتتكَ آياتنا فنسيتَها} أي: فتركتَها ولم تؤمن بها؛ وكما تركتَها في الدنيا تُترَك اليوم في النار.
{وكذلك} أي: وكما ذكرنا {نجزي من أسرف} أي: أشرك، {ولَعذاب الآخرة أشدُّ} من عذاب الدنيا ومن عذاب القبر {وأبقى} لأنه يدوم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعًا} خاطب آدم وإبليس.
{مِنها} أي من الجنة.
وقد قال لإبليس: {اخرج مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا} [الأعراف: 18] فلعله أخرِج من الجنة إلى موضع من السماء، ثم أُهبِط إلى الأرض.
{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} تقدم في البقرة أي أنت عدوّ للحية ولإبليس وهما عدوّان لك.
وهذا يدل على أن قوله: {اهبِطا} ليس خطابًا لآدم وحوّاء؛ لأنهما ما كانا متعاديين؛ وتضمن هبوط آدم هبوط حواء.
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} أي رشدًا وقولًا حقًا.
وقد تقدّم في البقرة.
{فَمَنِ اتبع هُدَايَ} يعني الرسل والكتب.
{فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} قال ابن عباس: ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضلّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وتلا الآية.
وعنه: من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، ثم تلا الآية.
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} أي ديني، وتلاوة كتابي، والعمل بما فيه.
وقيل: عما أنزلت من الدلائل.
ويحتمل أن يحمل الذكر على الرسول؛ لأنه كان منه الذكر.
{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} أي عيشًا ضيقًا؛ يقال: منزل ضنك وعيش ضنك يستوي فيه الواحد والاثنان والمذكر والمؤنث والجمع؛ قال عنترة:
إنْ يُلحقوا أَكْررْ وإنْ يُستلحَمُوا ** أَشدُدْ وإنْ يُلْفَوْا بضَنْكٍ أنزِل

وقال أيضًا:
إنّ المنيةَ لو تُمثَّل مُثِّلتْ ** مثلي إذا نَزلُوا بضَنْكِ المنزلِ

وقرئ {ضَنْكَى} على وزن فَعْلَى: ومعنى ذلك أن الله عز وجل جعل مع الدين التسليم والقناعة والتوكل عليه وعلى قسمته، فصاحبه ينفق مما رزقه الله عز وجل بسماح وسهولة ويعيش عيشًا رافِغًا؛ كما قال الله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النمل: 97].
والمعرض عن الدين مستولٍ عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا، مسلط عليه الشحّ، الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه ضَنك، وحاله مظلمة، كما قال بعضهم: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته، وتَشوَّش عليه رزقُه، وكان في عيشة ضنك.
وقال عكرمة: {ضَنْكًا} كسبًا حرامًا.
الحسن: طعام الضَّرِيع والزَّقُّوم.
وقول رابع وهو الصحيح أنه عذاب القبر؛ قاله أبو سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود، ورواه أبو هريرة مرفوعًا: عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرناه في كتاب التذكرة؛ قال أبو هريرة: يضيق على الكافر قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، وهو المعيشة الضنك.
{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} قيل: أعمى في حال وبصيرًا في حال؛ وقد تقدّم في آخر سبحان.
وقيل: أعمى عن الحجة؛ قاله مجاهد.
وقيل: أعمى عن جهات الخير، لا يهتدي لشيء منها.
وقيل: عن الحيلة في دفع العذاب عن نفسه، كالأعمى الذي لا حيلة له فيما لا يراه.
{قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى} أي بأي ذنب عاقبتني بالعمى.
{وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} أي في الدنيا، وكأنه يظن أنه لا ذنب له.
وقال ابن عباس ومجاهد: أي {قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى} عن حجتي {وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} أي عالمًا بحجتي؛ القشيري: وهو بعيد إذ ما كان للكافر حجة في الدنيا.
{قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا} أي قال الله تعالى له: {كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا} أي دلالاتنا على وحدانيتنا وقدرتنا.
{فَنَسِيتَهَا} أي تركتها ولم تنظر فيها، وأعرضت عنها.
{وكذلك اليوم تنسى} أي تترك في العذاب؛ يريد جهنم.
{وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} أي وكما جزينا من أعرض عن القرآن، وعن النظر في المصنوعات، والتفكر فيها، وجاوز الحدّ في المعصية.
{وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ} أي لم يصدق بها.
{وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ} أي أفظع من المعيشة الضّنك، وعذاب القبر.
{وأبقى} أي أدوم وأثبت؛ لأنه لا ينقطع ولا ينقضي. اهـ.